رامي زهدي يكتب : « الإرادة الشعبية في القارة الإفريقيا: هل تنتصر إرادة الناخب أم تنتصر فوضي التوجيه»

رامي زهدي – خبير الشؤون الإفريقية

في القارة الإفريقية تبرز الانتخابات كإحدى أهم البوابات التي تعكس جدية الدول في بناء عقد اجتماعي قادر على الصمود أمام تحديات التنمية والاستقرار، فإفريقيا، التي تضم نحو مليار وثلث المليار من البشر موزعين على خمسة وخمسين دولة، لم تعد تتعامل مع الانتخابات كطقس سياسي شكلي، بل كاختبار متجدد لمدى رسوخ مؤسسات الحكم، وقدرة الشعوب على إفراز برلمانات تمثلها بصدق، وتدفع عجلة التنمية نحو آفاق أوسع.

ورغم التباين العميق بين تجارب الدول، من حيث البنية الدستورية، ونظم الحكم، وإمكانات الدولة، إلا أن القارة خلال العقدين الأخيرين شهدت انتقالا نوعيا لافتا، فقد سجل الاتحاد الإفريقي منذ إنشائه عام 2002 ما يزيد على مئة وعشرين عملية انتخابات وطنية في مختلف الدول، بعضها شكل لحظات ديمقراطية فارقة، وبعضها تعثر تحت وطأة الواقع الأمني وضعف مؤسسات الحكم أو تأثير الجماعات المسلحة، ومع ذلك، فإن المشهد العام يكشف عن منحنى صاعد، ولو كان بطيئا، يعكس تحولا حقيقيا في وعي المواطن الإفريقي بأهمية صوته وقدرته على تغيير المعادلات.

وتبرز في هذا السياق تجارب جديرة بالتوقف والتأمل، مثلا رواندا، التي استطاعت رغم الإرث الثقيل للإبادة أن تبني منظومة انتخابية منضبطة، تقدم نموذجا لكيف يمكن للانتخابات أن تكون رافعة للاستقرار والتنمية، فيما تقدم غانا، ذات التاريخ الديمقراطي الممتد، دليلا على أن تداول السلطة السلمي قادر على خلق بيئة سياسية واقتصادية مستقرة جذبت استثمارات تجعلها اليوم واحدة من أبرز الاقتصادات الصاعدة في غرب القارة، وفي المقابل، تعكس تجارب أخرى قدرا من التحديات، مثل بعض دول منطقة الساحل التي ما زالت الانتخابات فيها أسيرة اضطرابات أمنية وتدخلات فصائل مسلحة، ما يحول دون ممارسة حقيقية للإرادة الشعبية.

ورغم هذا التفاوت، فإن المؤشرات تكشف أن المواطن الإفريقي بات أكثر حرصا على ضمان وجود برلمانات قوية وممثلة، إدراكا منه أن البرلمان ليس مؤسسة بروتوكولية، بل هو مركز صناعة التشريع، ودرع الرقابة على الجهاز التنفيذي، وصوت المجتمع في مواجهة الانحرافات أو القرارات الأحادية،

في دول مثل كينيا، ارتفعت نسبة المشاركة في بعض الدورات الانتخابية إلى ما يقرب من سبعين في المئة، فيما سجلت جنوب إفريقيا في أكثر من استحقاق انتخابي نسب مشاركة تعكس حيوية المشهد السياسي وتعدديته رغم تعقيداته.

وتتجاوز أهمية الانتخابات مجرد فرز نواب تحت قبة البرلمان، لتصبح شرطا من شروط التنمية المستدامة، فالإصلاح الاقتصادي لا يستقيم بدون بيئة سياسية مستقرة، ورقابة برلمانية حقيقية، وقدرة شعبية على محاسبة المسؤولين، كما أن المستثمر الأجنبي، الذي تبحث عنه الدول الإفريقية لتعزيز النمو وخلق فرص العمل، ينظر عادة إلى مدى استقرار المؤسسات التشريعية، وشفافية العملية السياسية، وصلاحية مناخ الحكم الرشيد، باعتبارها عوامل تحدد مستوى المخاطرة وجدوى ضخ رؤوس الأموال.

ولا يمكن فصل مسار الانتخابات في القارة عن طبيعة التحولات الكبرى التي تشهدها إفريقيا خلال السنوات الأخيرة، فمع زيادة عدد الدول التي اعتمدت أنظمة انتخابية أكثر انفتاحا، وانتشار التكنولوجيا في تسجيل الناخبين وفرز الأصوات، بدأت الصورة التقليدية للانتخابات تتغير، وقد ساهمت المفوضيات الوطنية المستقلة في عدد من الدول، إلى جانب المتابعة الإقليمية والدولية، في رفع مستوى النزاهة، وكبح محاولات التأثير غير المشروع في النتائج، رغم استمرار بعض التحديات المتعلقة بالتمويل السياسي، وضعف الأحزاب، وتفاوت مستويات الوعي الانتخابي في بعض المناطق الريفية.

وتظل العبرة في نهاية المطاف بقدرة العملية الانتخابية على إنتاج برلمانات تشبه شعوبها، تعبر عن آمالها لا عن رغبات دوائر النفوذ، وتدافع عن قضايا التنمية، والحريات، والعدالة الاجتماعية، وتعمل على صياغة تشريعات قادرة على ضبط إيقاع العلاقة بين الدولة والمجتمع. فبرلمان بلا سلطة رقابية حقيقية، أو بلا شرعية انتخابية راسخة، يتحول إلى عبء على الدولة، فيما يشكل البرلمان المنتخب بآليات نزيهة رافعة أساسية للاستقرار ولجذب الاستثمارات، ولضمان مشاركة واسعة في صنع القرار.

أثبتت تجارب إفريقيا أن الانتخابات ليست مجرد صندوق زجاجي، بل عملية متكاملة لا تنجح إلا حين تتوفر لها إرادة سياسية حقيقية، ومؤسسات قوية مستقلة، ومواطن واع لا يسمح بأن يُستخدم صوته في صراعات ضيقة، وإذا كانت التنمية هي الهدف الأكبر لدول القارة، فإن الطريق إليها لا يكتمل دون برلمانات قادرة على صناعة السياسات العامة بكفاءة، وتوجيه بوصلة الدولة نحو مصالح الناس، والدفاع عن مقدرات الوطن في عالم يتغير بإيقاع سريع.

ورغم الطريق الطويل أمام عدد من الدول لضمان انتخابات تامة النزاهة، فإن الإرادة الشعبية المتنامية، والوعي السياسي الآخذ في الاتساع، والضغوط الإقليمية والدولية الداعمة للحوكمة، تجعل المشهد الإفريقي محكوما في المستقبل القريب بمعادلة جديدة يصبح فيها الانتخاب الحقيقي شرطا وجوديا لا خيارا شكليا.

وفي ظل سعي القارة لاستعادة دورها العالمي، وتعزيز مكانتها في الاقتصاد الدولي، تبدو الانتخابات بوابة أساسية لبناء شرعية مؤسسية متماسكة تهيئ المجال العام لنهضة سياسية وتنموية طال انتظارها، فالقارة التي تمتلك أكبر طاقة شبابية في العالم، وأغنى موارد طبيعية، تحتاج قبل أي شيء إلى برلمانات قوية تستمد قوتها من نزاهة الانتخابات، لتكون صوت الشعوب وذراع التنمية، لا مجرد مقاعد تتبدل في مراسم دورية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى