رامي زهدي يكتب :«المتحف المصري الكبير فخر كل الشعوب الإفريقية»
خبير الشؤون الإفريقية

نجاح مصر في إنجاز وافتتاح المتحف المصري الكبير ليس حدثا ثقافيا محليا فحسب، بل هو رسالة جيوسياسية وثقافية لعموم القارة الافريقية، المشهد الذي شهدته ساحة الافتتاح مساء الاول من نوفمبر 2025، مع حضور رسمي واسع ومواكبة اعلامية عالمية مكثفة، وضع مصر في مركز الاهتمام كقوة قادرة على تحويل تراثها العريق إلى رافعة للتنمية والسياحة والدبلوماسية الثقافية، هذا الانجاز يمتد تأثيره داخل افريقيا على ثلاثة مستويات متصلة، أولها الانطباع الشعبي، ثم الموقف الرسمي لصناع القرار، وثالثا التغطية الاعلامية التي تشكل وعي الجماهير والاجتهادات السياسية.
على مستوى الارقام والحقائق التي صنعت الحدث، انتهت اعمال مشروع يمتد لعقدين على مساحة متجاوزة نصف مليون متر مربع، تخزن فيه مصر اكثر من مئة الف قطعة اثرية تعرض بطريقة عصرية وتفاعلية تستهدف رواية التاريخ وليس مجرد عرض قطع؛ تكلفة المشروع تجاوزت المليار دولار، وحفل الافتتاح استقطب 79 وفدا رسميا من دول مختلفة، فيما تم اعتماد اكثر من 450 صحفيا اجنبيا لتغطية الحدث، مما يعكس بعدا دوليا واقليميا لافتاً، هذه المعطيات تحولت الى وقائع ملموسة لدى الجمهور الافريقي، حيث رؤية قدرة مصر على الاستثمار في بنى تحتية ثقافية عملاقة، وايمان بقدرة الدولة المصرية على ادارة مشاريع طويلة الاجل ذات مردود اقتصادي وسياحي.
الشعوب الافريقية تابعت الحدث بتفاعل اعمق من مجرد اعجاب بصري، في المجتمعات التي تربطها بمصر روابط حضارية ودينية وثقافية، مثل دول شمال وشرق افريقيا وسواحل البحر الاحمر، شكل عرض المواكب والاساطير الفرعونية فرصة لاتصال بالهوية المشتركة وامل في تعزيز السياحة بين الدول الافريقية، في دول افريقية بعيدة جغرافيا مثل غرب وجنوب القارة، مثلت التغطية الواسعة فرصة للتذكير بمكانة مصر كحامل لعنوان افريقي عالمي امام المنتديات الدولية.
على مستوى الجمهور العام، احس المتابعون بانجاز يرى كنموذج للاستثمار في القطاعات الثقافية والسياحية، وهي رسالة مهمة للدول الافريقية التي تبحث عن نماذج تنموية بديلة عن الاعتماد على السلع الاولية.
الحكومات الافريقية قرأت الحدث من زاوية المصالح القومية والتنموية، عدد من الرؤساء ورؤساء الوفود الافريقية حضروا الافتتاح او ارسلوا ممثلين رفيعي المستوى، ومن ذلك مشاركة رؤساء دول افريقية وتواجد وفود رسمية من غرب وشرق وجنوب القارة، ما ادى الى تعزيز العلاقات الثنائية والقنوات الدبلوماسية الثقافية بين مصر وشركائها الافارقة.
قراءة الدولة المصرية كانت مزدوجة، اولا كفرصة لتعزيز التعاون السياحي والاستفادة من تدفقات الزوار الى المنطقة المحيطة بالاهرامات، وثانيا كمثال على كيفية الاستفادة من التراث الوطني كمنتج اقتصادي قادر على خلق سلاسل قيمة تعمل مع القطاع الخاص والمجتمعات المحلية.
وسائل الاعلام الافريقية لعبت دورين متوازيين، نقل الخبر ونقد محتواه التحليلي، في التغطيات الصادرة من صحف وفضائيات افريقية لاحظنا تمجيدا لجهود مصر في الحفاظ على التراث وادارته بشكل مهني، وفي الوقت نفسه انعكاس النقاشات المحلية حول اولويات الانفاق العام ومدى اولوية المشاريع الثقافية امام تحديات اجتماعية طالما واجهت القارة، هذا التوازن بين الاحتفاء والنقد مهم لأنه يعكس نضجا اعلاميا وسياسيا لدى الرأي العام الافريقي، التقدير للانجاز والتساؤل عن التوزيع العادل للعائدات والقدرة على جعل هذا المشروع منصة تعاون اقليمي، تغطية المؤسسات الاعلامية الافريقية ترافقت مع بث واسع لوكالات عالمية مثل رويترز والجزيرة التي كانت لها مراسلين على الارض، ما عزز صدى الحدث داخل وخارج القارة.
من زاوية استراتيجية مصلحية، يجب على مصر توظيف هذا الزخم لصالح افريقيا،اولا اقتصاديا وثانية قوة ناعمة مؤثرة، يمكن تحويل المتحف الى محور لبرامج مشتركة، سياحة افريقية متبادلة، برامج تدريب وحفظ وترميم افريقية بمشاركة مؤسسات مصرية، ومشروعات منتج سياحي يستوعب الزائر الافريقي بتسعيرات وميزات تشجع على السفر البيني والاستفادة من البنية التحتية الجديدة.
نحتاج الى بيانات تفصيلية تُظهر القدرة الاستيعابية المتوقعة للزوار (هدف سنوي ممكن 5-7 ملايين زائر خلال السنوات الخمس الاولى بحسب توقعات الجهات المسؤولة عن تطوير السياحة الثقافية في المنطقة)، وايجاد شراكات تمويلية مع بنوك افريقية وصناديق استثمار سياحي.
في البعد الناعم، يفتح المتحف الفرصة لمبادرات ثقافية معرفية، كمعارض متنقلة في عواصم افريقية تعرض نسخا من المعروضات او معارض مشتركة حول تاريخ التبادل بين مصر وباقي افريقيا، برامج تبادل علمي وتدريب مختصين افارقة في الترميم والمتاحف، ومنح دراسية وشراكات بين متاحف افريقيا والمتحف المصري الكبير في مجالات الرقمنة والتعليم، هذا النوع من التعاون يعزز الشراكة المتبادلة ويصنع شبكة معرفية افريقية يكون لمصر فيها دور قيادي فني وثقافي، مثل هذه المبادرات ستترجم الانطباع الاعلامي الباهر الى علاقات استراتيجية طويلة الامد.
التحديات تبقى قائمة،حيث يجب ان لا يتحول المشروع الى شعار اعلامي فارغ اذا لم يرافقه خطة توزيع عوائد واضحة، فرص استثمارية للقطاع الخاص الافريقي، وبرامج تعليمية وتدريبية قابلة للقياس. ايضا هناك حساسيات مرتبطة بالصور النمطية للتاريخ الفرعوني بعيد عن التعدد الاثني والعرقي في افريقيا، لذا ينبغي اعادة صياغة الرواية المتحفية لتشمل الاواصر الافريقية وتشجيع الابحاث المشتركة التي تربط بين الحضارات وتؤكد الطابع الافريقي المشترك، هذه الاجراءات ستحول المتحف الى منصة للصداقة والاقتصاد والمعرفة بين مصر وشركائها الافارقة.
المتحف المصري الكبير هو اكثر من مبنى ومجموعات اثرية مرتبة، انه مشروع دولة وجسر حضاري يمكن ان يغير قواعد التفاعل بين مصر وافريقيا اذا ما صاحبته استراتيجية متكاملة تستثمر الزخم الاعلامي والدبلوماسي وتحوله الى شراكات اقتصادية وثقافية ملموسة.
الافارقة شعوبا وحكومات واعلاما شاهدوا الحدث واعترفوا بقدرته على اعطاء مصر موقع قيادة في ملف الثقافة والسياحة على مستوى القارة، المهمة الان لمصر هي تحويل هذا الزخم الى برامج ونتائج ملموسة تخدم التنمية المتبادلة وتؤسس لتكامل ثقافي واقتصادي يفيد الجميع.





