رامي زُهدي يكتب : «مشاريع البنية التحتية الكبرى في القارة الإفريقية ونفوذ مصر  الاقتصادي الجديد في القارة»

رامي زُهدي – خبير الشؤون الإفريقية

في عالمٍ تتغير خرائط النفوذ فيه كل يوم، لم تعد القوة تُقاس بعدد الجيوش أو حجم الترسانات العسكرية، بل بمدى قدرة الدولة على بناء الجسور التي تربط الأسواق، والممرات التي تصل الشعوب، والموانئ والمطارات التي تُعيد رسم خطوط التجارة وتُنشئ شبكات التأثير، وفي هذا السياق، تبدو مصر اليوم وكأنها تُعيد صياغة معادلة القوة الناعمة في القارة الإفريقية على نحو مختلف، مستندة إلى أدوات التنمية والبنية التحتية الكبرى كجسر ممتد بين الاقتصاد والسياسة، وبين المصالح المشتركة والمستقبل المشترك.

لقد أدركت مصر أن النفوذ الحقيقي في إفريقيا لا يُبنى على الشعارات أو المواقف الدبلوماسية وحدها، بل على القدرة على أن تكون شريكًا في التنمية، فالممر الذي يقام في أراضي تنزانيا، أو الطريق الذي تشقه شركة مصرية في أوغندا، أو الجسر الذي يُقام بتمويل مصري فوق نهر في جنوب السودان، كل ذلك يُترجم إلى حضور سياسي غير مباشر لكنه أكثر رسوخًا وفاعلية من أي خطاب سياسي أو دبلوماسي، ومن هنا، جاءت رؤية الدولة المصرية منذ عام 2014 لتضع الاستثمار في البنية التحتية القارية ضمن أولوياتها الاستراتيجية، باعتبارها أداة اقتصادية ذات تأثير سياسي وإنساني عميق.

لقد كانت البداية عبر مشروع الطريق القاري “القاهرة – كيب تاون“، الذي يُعد أحد أهم مشروعات الربط البري في القارة، إذ يمتد بطول يقارب 9700 كيلومتر ليصل شمال إفريقيا بجنوبها، مرورًا بتسع دول إفريقية. هذا المشروع لم يكن مجرد طريق، بل رمزًا لرغبة مصر في إعادة صياغة علاقتها بالقارة على أساس التكامل والتبادل، فكل كيلومتر من هذا الطريق هو خط جديد للتنمية، وكل محطة استراحة فيه هي نقطة تواصل بين الشعوب الإفريقية. ومن الطريق إلى الميناء، كانت الرؤية المصرية تتسع لتشمل ربط البحرين الأحمر والمتوسط بشبكة من الموانئ الحديثة التي تخدم القارة بأكملها، في ظل ما تمتلكه مصر من موقع استراتيجي فريد يربط إفريقيا بالعالم.

أيضا، تحولت الموانئ المصرية مثل الإسكندرية ودمياط والعين السخنة وسفاجا إلى محاور لوجستية إقليمية يمكن أن تُعيد رسم خريطة التجارة الإفريقية إذا ما استُثمرت بالشكل الأمثل، فالميناء ليس مجرد منفذ بحري، بل هو حلقة ربط قوية في شبكة التأثير الاقتصادي والسياسي، إذ تمثل حركة البضائع وحجم النقل والقدرة على خدمة الأسواق مؤشرات على النفوذ ذاته، وبالتوازي مع الموانئ، جاء التوسع في إنشاء وتطوير المطارات الإفريقية برؤية مصرية ليمثل بعدًا جديدًا في الدبلوماسية الاقتصادية، حيث شاركت الشركات المصرية في تصميم وبناء مطارات في جوبا وأبيدجان وكوناكري، بالإضافة إلى تحديث عدد من المطارات الداخلية في دول شرق وغرب إفريقيا، في تجسيد مباشر لتحول مصر من متلقٍ للمشروعات إلى مُصدّر للخبرة والمعرفة الهندسية.

تقول الأرقام الكثير عن هذا التحول، فمصر تُسهم اليوم في أكثر من 35 مشروع بنية تحتية قاري، تتنوع بين الطرق والجسور ومحطات الكهرباء والمياه والمطارات، وتصل قيمة الاستثمارات المصرية المباشرة في هذا المجال إلى نحو 12 مليار دولار، بينما تنتشر الشركات المصرية العاملة في مجال المقاولات والهندسة المدنية في أكثر من 20 دولة إفريقية. وتُعد مصر ضمن أعلى ثلاث دول إفريقية في تصدير خدمات المقاولات، إلى جانب جنوب إفريقيا ونيجيريا، وهو إنجاز يعكس تنامي الدور المصري في سوق البنية التحتية الإفريقية، خاصة مع وجود شركات ذات خبرة تراكمية مثل “المقاولون العرب”، و”أوراسكوم”، و”حسن علام”، و”بتروجيت”، وهذه الشركات باتت تمثل وجهًا آخر للقوة المصرية الناعمة، لأنها تحمل إلى القارة نموذجًا من الكفاءة والانضباط والالتزام بالمعايير الدولية، مما جعلها موضع ثقة لدى الحكومات الإفريقية وشعوبها.

ويُضاف إلى ذلك أن مشروعات البنية التحتية في إفريقيا ليست مجرد مشروعات هندسية، بل هي مشروعات سياسية بامتياز، فالممرات الاقتصادية التي تمتد عبر القارة، مثل الممر الشرقي الذي يبدأ من القاهرة وينتهي في كيب تاون، أو الممر الشمالي الذي يربط المتوسط بالبحر الأحمر، لم تعد خطوط نقل للبضائع فقط، بل خطوط نقل للنفوذ والمصالح والتفاهمات.

إن كل طريق جديد يشق أرض إفريقيا بأيدٍ مصرية، هو طريق نحو توسيع الفضاء الاستراتيجي المصري وتعزيز مكانتها كمحور إقليمي للتجارة والخدمات اللوجستية.

لقد نجحت مصر في إدراك أن إفريقيا، التي تُعد قارة المستقبل، تحتاج إلى جسور أكثر من حاجتها إلى بيانات سياسية، فبحسب تقديرات البنك الإفريقي للتنمية، فإن القارة تحتاج سنويًا إلى استثمارات تتراوح بين 130 و170 مليار دولار في البنية التحتية، مع فجوة تمويلية تُقدّر بما بين 68 و108 مليارات دولار سنويًا،وهذه الأرقام الضخمة تعني أن من يملك القدرة على تمويل أو تنفيذ هذه المشروعات، يملك أيضًا مفاتيح النفوذ الاقتصادي والسياسي، وهنا يتجلى الحضور المصري المتنامي، إذ تسعى القاهرة لأن تكون ضمن الفاعلين الرئيسيين في سد هذه الفجوة عبر خبراتها، وشركاتها، وعلاقاتها التاريخية مع شعوب القارة.

وفي الوقت نفسه، تتعامل مصر مع هذه المشروعات من منظور تكاملي لا تنافسي، فهي لا تسعى لمزاحمة القوى الدولية كالصين أو تركيا أو فرنسا، بل لتقديم نموذج للتنمية المشتركة يرتكز على مبادئ الشراكة والمنفعة المتبادلة، فبينما تستخدم بعض القوى البنية التحتية كأداة للنفوذ السياسي المباشر، تطرح مصر نموذجًا مختلفًا، يقوم على بناء الثقة المتبادلة وتمكين الشعوب الإفريقية من الاعتماد على قدراتها الذاتية، مع تقديم الدعم الفني والتقني اللازم لتحقيق التنمية المستدامة.

إن كل مشروع طريق أو جسر أو ميناء يحمل في طياته رسالة سياسية بليغة، أن مصر لا تزال حاضرة في قلب إفريقيا، ليس بالشعارات، بل بالفعل. فهي تسعى لأن تكون شريكًا في بناء المستقبل الإفريقي، انطلاقًا من إيمانها بأن ازدهار القارة هو امتداد طبيعي لازدهارها هي ذاتها، فالأمن القومي المصري، بمعناه الأوسع، يبدأ من حدود التنمية الإفريقية، وكل استقرار يتحقق في الجنوب هو ضمان لاستقرار الشمال.

ومن الناحية المفاهيمية، استطاعت مصر أن تحول مفهوم البنية التحتية من “البنية الصلبة” إلى “أداة للقوة الناعمة”. فالطريق لم يعد مجرد خرسانة وإسفلت، بل هو منصة للتواصل، والمطار ليس مبنى للطيران فحسب، بل مركز للتبادل الثقافي والبشري، والميناء ليس محطة شحن، بل بوابة للتكامل الاقتصادي. ومن هنا، تُصبح مشروعات البنية التحتية امتدادًا طبيعيًا للدبلوماسية المصرية في القارة، ودعمًا مباشرًا لسياستها الخارجية التي تقوم على التعاون والمصالح المشتركة.

وتتجسد هذه الفلسفة في نماذج عدة، أبرزها العاصمة الإدارية الجديدة، التي باتت تُقدَّم في إفريقيا كنموذج ملهم لتخطيط المدن الحديثة وإدارة التحول الحضري، إذ طلبت دول مثل مدغشقر وتنزانيا الاستفادة من التجربة المصرية في بناء مدن جديدة تعتمد على التكنولوجيا والحوكمة الذكية والبنية المستدامة، وهكذا تنتقل التجربة المصرية من داخل الحدود إلى خارجها، لتصبح أداة لنشر الفكر التنموي المصري وبناء دوائر تأثير قائمة على الإنجاز لا الوعود.

غير أن هذا المسار، رغم نجاحه، لا يخلو من تحديات، فالقارة الإفريقية تشهد تنافسًا محتدمًا بين قوى دولية تسعى جميعها لبناء حضور اقتصادي من خلال البنية التحتية، ما يجعل الحاجة إلى رؤية مصرية متكاملة أكثر إلحاحًا، فنجاح التجربة يتطلب تنسيقًا عميقًا بين مؤسسات الدولة والقطاع الخاص، إلى جانب توظيف الأدوات التمويلية الإقليمية والدولية بما يخدم المصالح المصرية والإفريقية المشتركة، كما أن اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA) تمثل فرصة تاريخية لمصر لتعزيز دورها كمركز لوجستي وممر رئيسي للتجارة بين أقاليم القارة، إذا ما اقترنت المشروعات الحالية باستراتيجية شاملة للنقل وسلاسل الإمداد والمناطق الصناعية المشتركة.

وفي الرؤية البعيدة، تمتلك مصر القدرة على أن تكون القلب النابض لشبكة الممرات الاقتصادية في القارة، وأن تلعب دورًا محوريًا في تحقيق أهداف أجندة الاتحاد الإفريقي 2063، التي تضع البنية التحتية في صدارة أولويات التنمية. ومن ثمّ، يمكن تصور إنشاء “الوكالة المصرية للتنمية والبنية التحتية في إفريقيا” كذراع سيادي وطني يتولى التخطيط والتنسيق والإشراف على المشروعات القارية، بما يضمن توحيد الجهود وتعظيم العائد الاستراتيجي لمصر والقارة معًا.

إن الحضور المصري في إفريقيا اليوم لم يعد يقتصر على الاجتماعات والمنتديات والمؤتمرات، بل بات يُقاس بعدد الكيلومترات التي تبنيها الشركات المصرية، وحجم الاستثمارات التي تضخها في الطرق والموانئ والمطارات، وعدد الجسور التي تربط بين الشعوب تحت راية التنمية المشتركة. ومن الممر القاري إلى محور فيكتوريا – المتوسط، ومن جسر الخير بين حلفا وأسوان إلى الموانئ الممتدة على البحرين الأحمر والمتوسط، ومن المطارات التي تشهد على الحضور المصري في قلب القارة إلى المناطق اللوجستية التي تُعيد وصل إفريقيا بالعالم، تتشكل ملامح القوة الناعمة المصرية الجديدة التي تُكتب بلغة التنمية والعمل والإنجاز.

هكذا تبني مصر اليوم نفوذها الاقتصادي والسياسي في القارة، لا عبر فرض الإرادة، بل عبر بناء القدرات، ولا عبر التوجيه، بل عبر المشاركة، في وقتٍ تُدرك فيه أن التنمية هي السياسة بأرقى صورها، وأن الطريق الممهد بالثقة والمصلحة المشتركة أقصر بكثير من أي طريق آخر نحو المستقبل. فالقوة الناعمة المصرية لم تعد مجرد مفاهيم ثقافية أو رمزية، بل باتت تُقاس بما تشيده الأيدي المصرية في إفريقيا من جسور وطرق وموانئ ومطارات، وبما تزرعه من أمل في قارةٍ لا تزال تنتظر من يعبّد لها الطريق نحو الغد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى